يذكر لنا فيلسوف الفن التشكيلي المعاصر (هربرت ريد) في كتابه "حاضر الفن" وهو يستعرض مراحل تطور الفن ( ويقصد به فن الرسم ) إبتداءا من عصر النهضة حتى يومنا هذا . وهو جازما على أن التقاليد الرئيسة في فن الرسم الأكاديمي الأوربي ، قد بدأت في القرن الرابع عشر .. وقد بدأت بشكلها المبسط من خلال الرغبة في نسخ ما تراه العين مباشرة .. وقد ساند هذا الرأي " روجر فراي " حين قال: (لم يكن مطلوبا من الفنان أن تكون تخيلاته رائقة للعواطف بإيقاعها فحسب ، بل أن تتماثل مع مظهر العالم الواقعي ، أما بنيتها فيجب أن تكون متماسكة وبلا ثلمة ، كتلك التي للمنظر المرئي وهذا شرط أساسي .. وإن هذا التماسك كان يتحقق بطريقتين ، أما بمحاكاة دقيقة للمنظر الواقعي ، أو بإنشاء صورة إستنادا الى تلك القوانين البصرية التي ترتاح لها الرؤية حتما ) .
يتضح بأن الطريقة الأولى سميت بالمنهج التجريبي . وكان قد إستعملها الفنانون الفلمنكيون في شمال أوربا . وأما الطريقة الثانية ، والتي يمكن أن يقال عنها بأنها (علمية) ، فقد أستنبطت في إيطاليا ، خصوصا في مدينة فلورنسا ، حيث كان فنانوها هم الذين إكتشفوا القوانين البصرية للمظهر .. وهكذا نجد أن في هذين النهجين توجها للمحاكاة ، ليس له غاية أخرى سوى نسخ المظاهر. فهو يعطي صورة للتجربة البصرية المباشرة ، ويتطلب ذلك من الفنان تسجيلا صادقا للآلية الفسلجية لبصره .
إستمرت هذه الممارسات الفنية حتى آواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، الذي حمل معه مولد مدرسة فنية جديدة ، إستعارت إسمها من عنوان لوحة للرسام الفرنسي "كلود مونييه" ( إنطباع شروق الشمس )عام 1672 م .
انطباع: شروق
فكانت هذه أول حركة فنية رائدة تتمرد على القيم الكلاسيكية و الأكاديمية التي تبناها الفنانون الأوربيون مع هيمنة القيم الفنية لعصر النهضة الأيطالية ، وهي قيم إلتزمت ، تجسيدالأبعاد الثلاثة ، ومحاكاة الواقع الملموس ، وفي الأعمال الفنية ، وعرفت أيضا بالتأثرية ، وتمثل أسلوبا فنيا في الرسم ، يعتمد على نقل الواقع أو الحدث من الطبيعة مباشرة ، وكما تراه العين المجردة ، بعيدا عن التخيل والتزويق .
مونيه : زنابق الماء
وفي إثنائها خرج الفنانون من المرسم ونقلوا أعمالهم في الهواء الطلق ، مما داعاهم الى الإسراع في تنفيذ العمل الفني قبل تغير موضع الشمس في السماء و بالتالي يمكن أن يؤثر ذلك على تبدل الظل والنور .. وسميت بهذا الإسم لأنها تنقل الحركة الفنية الى حركة جديدة ، سميت فيما بعد بالإنطباعية . وهذه أضافت أبعادا أخرى الى التأثيرات النظرية للإنطباعيين ، إذ إشتركت مع الإنطباعية بالألوان المشرقة الواضحة وبضربات الفرشاة الثقيلة الظاهرة و إختيار مواضيع الرسم من الحياة الواقعية .
فانكوخ - ليلة النجوم
لكنها تحيد عنها ، بميلها الى إظهار الأشكال الهندسية ( كالمثلث والمربع و .. ) وإستعمال ألوان غير طبيعية أو إعتباطية للأشياء ، وإبتعدت عن التقييد المتوارث في الإنطباعية .
نشأت التكعيبية بعد المدرسة الإنطباعية سنة 1907 م كرد فعل عليها ، ويعد الفنان "بول سيزار" هو أول من خطط ومهد لها فقد كان يكرر قوله : ( أن المخروط و الكروي والإسطواني هي أشكال ينبغي على المصور أن يبحث عنها ) .
إهتمت التكعيبية بفكرة وحدة الصورة المرسومة على سطح ذي بعدين ، وبتحليل الأحجام وعلاقتها ، فقد حقق التكعيبيون ذلك بتعمدهم إهمال رسم الأشياء كما هي ، والسعي لإيجاد التكوين الكلي للشئ المراد تصويره ، ومع توضيح وضعه في الفراغ . وفي سعيهم لتحقيق ذلك ، فإن التكعيبين قد جعلوا الصورة تحمل فكرة الشئ المرسوم ، وذلك برسمه من جهات متعددة في وقت واحد .
إن عملية التجريد هذه قد تمتلك مظهر عملية آليه ، مخلفة القليل من المجال لدور حساسية الفنان الخاصة ، ألا أنه في الحقيقة ليس ثمة ما هو أكثر جلاء من الشخصية الفردية في أعمال العديد من الرسامين التكعيبين ، ويمكن أن يقال بأن عملية التجريد كانت تقوم بإزاحة القناع العاطفي للواقع .
وبتصاعد الإيقاع الدرامي في السريالية ، نجد أن المعنى قد أصبح لغزا معقدا صعبا ، يبتعد بالمتلقي عن العالم المقول ، ويستبقسه في حالة من الحيرة والذهول .
سيلفادور دالي - أكتشاف امريكا من قبل كريستوفر كولومبوس
فهو يفتح أمامه آفاق عالم المجهول و اللامعقول ، فإذا بذات الفنان يستولي على الموضوع برمته ، ليستحيل الموضوع ذاتا ، والذات موضوعا، يرى من خلالها المتلقي إنعكاسا لما غاب عنه في ذاته . لنجد أن التباين الكبير الذي نجده بين التيارات والمدارس الفنية المختلفة و المتنوعة ، إنما مرده الى إنطلاق سراح المعنى و إطلاق العنان له كي يضع شروطه الخاصة و إحيانا الجامحة في تشكيل العناصر والعلاقات و الخواص بأساليب جديدة متغيرة و مرنة و المعنى منجم ثري للصياغات الشكلية التي يستتر وراءها.
د.هاشم عبود الموسوي