
يوم الجمعة الفائت 17 آب 2018 لفظت الفنانة والكاتبة والناقدة الموسيقية العراقية سحر طه أنفاسها الأخيرة في مستشفى هنري فورد في ولاية ميشيغان الأميركية بعد أيام قلائل من إحتفال الاسرة والأصدقاء بعيد ميلادها الحادي والستين . لقد حرص زوجها الوفي الاعلامي اللبناني الصديق سعيد طه محيي الدين على دعوة الأسرة والاصدقاء من مختلف أنحاء العالم لحضور حفل عيد ميلادها ، ربما لأنه على يقين بأن معركتها الملحمية الطويلة مع السرطان قد شارفت على نهايتها ، وانه سيكون الحفل الأخير الذي سيعقبه مباشرة الوداع الأخير !
وفي حفل عيد ميلادها هذا ، حضر الأبناء والأحفاد والأهل وأصدقاء الطفولة ورفاق رحلة الألم التي ابتدأت منذ اكتشاف المرض اللعين عام 2003 ، حضروا من باريس وفنلندا وكندا وبيروت ، ومن بوسطن وأوكلاند وكاليفورنيا ، وكان اللقاء الأول والأخير بين سحر وحفيدتها التي حملت اسمها ، نيا سحر طه أو سحر الصغيرة .
وأنا أتلقى خبر رحيل سحر ، ثم وأنا أهاتف صديق العمر سعيد طه معزياً برحيلها ، لم أستطع منع دموعي من الهطول ، ولا ذكرياتي من الانثيال واستعادة رحلة طويلة من الحب كنت شاهداً عليها يوم كان سعيد يواصل دراسته وعمله الصحفي في بغداد ، وقد تعرف على الشابة الجميلة سحر هادي الطالبة في معهد الدراسات النغمية ، العاشقة للموسيقى والشعر والأغاني التراثية العراقية الأصيلة ، وتكلل الحب بالزواج ليصطحب سعيد عروسه البغدادية إلى بيروت ليصبح اسمها الجديد سحر طه ، ثم يواصلان حياتهما ونجاحاتهما مع تأسيس أسرتهما الصغيرة بعد أن أنجبا ولديهما ، الأول الذي حمل اسم جده لأبيه " محيي الدين " ، والثاني الذي حمل اسم جده لأمه " هادي " . في واحدة من الصور التي جمعته بسحر في العام الماضي يعلق سعيد طه المعروف بمرحه وروح النكتة الحاضرة دوماً على لسانه : " 40 سنة خدمة إجبارية وانضباط عسكري 1977 – 2017 " ! وكان سعيد صادقاً محقاً في قوله فقد كان نعم الزوج الوفي ، والمحب العاشق ، والرفيق الصبور ، وقد تجلى معدنه الاصيل في وقوفه الاسطوري مع سحر في محنة المرض القاسية التي قاومته في السنوات 2003 و2006 و 2011 قبل أن تستسلم له في معركتها الأخيرة ، وسعيد معها ، وسعيد إلى جانبها ، مثلما كان دوماً ، يتسلم منها راية استمرار الحياة .
في اللقاء الأخير الذي جمعني مع سعيد وسحر قبل أربع سنوات في شقتهما الجميلة ببيروت وبالتحديد في منتصف تموز 2014 ، كانت سحر بعفويتها البغدادية المحببة تضيفنا بمحبة ، وتحاول أن تعزف على العود واعادة تمرين صوتها على الغناء بعد انتهاء مرحلة صعبة من العلاج تركت أثارها على حبالها الصوتية ، وكانت تطلب مني أن أردد معها لمساعدتها على استذكار كلمات بعض من الأغاني العراقية التراثية ، لينساب صوتها الرخيم مثل شلال ماء عذب على انغام العود العراقي الذي تداعب اصابعها اوتاره بألفة وحنين وكأنها تحتضن بغداد في بيتها وسط بيروت ، وكانت تستعد لجولة فنية الى الجزائر تؤدي فيها مجموعة من الاغاني التراثية العراقية والموشحات والاغاني الصوفية الروحانية التي قامت باختيار نصوصها من قصائد الشعر الصوفي النسوي القديم والحديث من رابعة العدوية الى لميعة عباس عمارة .
تتعامل سحر مع فنها بكونه حاجة روحية ذوقية وجدانية قبل ان يكون مهنة واحترافاً ومالاً ووجاهة وشهرة ، لذلك فأنها لا تفضل كثيرا اللقاءات الصحفية والبهرجة الاعلامية ، وتمضي وقتها بين بيتها وعملها في الصفحة الثقافية لواحدة من كبريات الصحف البيروتية والانشغال بتسجيل انتصاراتها الروحية والجسدية في جولات الصراع مع المرض اللعين .
كانت سحر يوم زرناها في بيتها الكريم ، تتهيأ لحفلتها في الجزائر بمجموعة من الأغنيات ، وكانت تلح على ترديد كلمات أغنية " ودعتُ بغداد" التي كتب كلماتها والدها هادي الخفاجي :
" لا لا لا أبدا ما أنساها .. لا تظن أنا عنها بعيد .. وتقول ناسيها .. هي غرام الروح .. ومجنون أنا بيها .. يالرايح لبغداد .. هاي أمي حييها .. وأتمنى انا وياك أرجع ورد ليها .. وبكلبي ليل نهار .. موال أغنيها .. وأدعو لها بالخير .. كون الله يحميها " .
يوم ودعت سحر بغداد ، لم تكن تتخيل أبداً انه الوداع الأخير ، فبغداد بعيدة جدا ًجداً عن سرير الموت في مستشفى هنري فورد ، حيث احتفلت بعيد ميلادها الأخير !
وداعاً سحر ، يا نسمة بغدادية هبت على بيروت فمنحتها جمالاً وعذوبة وحباً وخيالاً ، ولصديق العمر سعيد طه أقول : حزنك الأبدي يا صديقي على سحر سيزيدك حبأ وعشقاً وعطاءً ، لقد أديت الأمانة كما يليق بالرجال الأوفياء . ووفيت وكفيت .. والنعم منك يا رجل !



