كان صباحا آذاريا مشمسا، غسل وجهه بضوء الشمس ولعب بعض التمارين السويدية متبعا النصح الطبي المعلن في التلفاز، تنفس بشهيق هواء حديقة البيت وزفره بقوة، الحديقة التي لم يزرها منذ دخل زنزانة غرفته يوم أمس، إذ كان يعدّ البيت سجنا، وغرفة نومه زنزانته وزوجته نزيلة معه على ذات السرير، حين ظلّ يرتبك عند اقترابهما من بعضهما، ظنا منه أنها زميله في الزنزانة وقد التصقت أفرشتهم مع بعضها، بينما كانت هي تأخذه في حالته تلك، الى حضنها وتضع رأسه على صدرها، وتقرأ له المعوذتين وتذكّره أنها زوجته وحبيبته، لكن الفكرة ظلّتْ عالقة برأسه ونفسه من أنها زميله في الزنزانة حتى في بعض تعامله معها عند خلوتهما فلا يقربها جسديا وهي تعاني معه كما في كل مرة..، فيما صارت حديقة المنزل متنفّسا لبقية السجناء في البيت من أولاده وبناته وبنات زوجته من زوج غيره، البالغات سن السجن على سرير، .
،عاد من الحديقة الى الحنفية ليفتح صنبورها ويفك سجن الماء، لطش وجهه مرتين متتالين بالماء من كفه كما أعتاد على هذا في السجن ورمل الصحراء يعب وجهه، ثم وضع رأسه تحت الحنفية، ليغرق بين يدي السجّان تضغط على رأسه في حوض ماء بغرفة التحقيق، مطالبا إياه بالاعتراف بتمويله جهة ما ضد الحكومة..، هزّ رأسه تحت الماء لمرات عدة قبل أن يرفعه بقوة فيضرب به الحنفية ويختلط دمه بالماء، كان يضع يده على الجرح البسيط مثلما اعتاد أن يضعها في المعتقل، فوق الجرح ومنكسا رأسه ليراها بقية السجّانين، فلا يكرروا ضربه في طريق عودته من دورة المياه، وفي نفسه خوف أن تتكرر الضربة على رأسه من المكان نفسه..،
دلف باحة هول منزله، يبحث عن علبة المناديل الورقية المرمية على الكنبة، سحب منها ورقة، ورقتين، ثلاث..، رجع الى الحنفية وعمّد يديه بالماء تحتها بهدوء شفيف، صار الجرح الصغير ناشفا في رأسه، فسقطت كومة المناديل الورقية أمامه وهو يغسل يديه، كما سقطت بقايا ذاكرته في غرفة التحقيق لتنمو ذاكرة السجن مكانها، لم يعر كومة المناديل التي قفزت من رأسه انتباها، وقد غسل يديه في دعك وفرك كأنه يعترك الماء بين أصابعه، ثم نفضهما ومرّ بالمشط على شعره أمام المرآة التي لم ير فيها غير بقايا شعر على الجانبين، ليتساءل في نفسه (هل أكل السجن كل هذه السنين من عمري، التي تساقط شعري فيها؟!) ، حينها كانت الأنظمة قد تغيرت لكنه قد بقي في سجنه..، رجع الى غرفة نومه فلم يجد زوجته، وقد أخذ يبحث عنها في ربوع الطابق الأرضي، ولم يجدها أيضا فحدثته نفسه ( ربما نقلوه الى زنزانة أخرى، أو ربما نفذوا حكم الإعدام به)، فهرعت ذاكرته تطرق باب عقله ونفسه بشدة وقوة أكثر من ذي قبل،..(كيف حدث لنا هذا؟!، كنا سويا ولم نقم بشيء يخالف قوانينهم قبل سجننا، لا أنا ولا الخباز الكهل المتهم بالشيوعية..)، كانت ذاكرته تصفع عقله بقوة وهي تستعيد بحثه عن الخباز الكهل الذي توفي في الزنزانة، حين كان هو خارجا مع السجناء لدورة المياه ذات صباح، ولم يخبره أحد بوفاة زميله الكهل بحسب أوامر ضابط السجن،كانت ذاكرته تضرب به هذا الجدار وذا الجدار، حتى وقف أمام المرآة الملصقة بباب إحدى غرف منزله المترفة، أعادته صورته فيها الى واقعه أنه يبحث عن زوجته التي تركها في سريره قبل شروعه بالتمارين الصباحية وتناوله فطوره وعلاجه للأمراض المزمنة التي لحقت به جراء السجن، فــراح يتصل بهاتفه المحمول على أولاده المنتشرين في أرجاء بيته الكبير وكل منهم في غرفته من الطابق الثاني، حيث تتعبه درجات سلّمه..،
كان ينوي أن يقدم عملا مسرحيا يومها في بيته الذي لا يستطع احد مغادرته، خوفا من وباء كورونا خارجه، كان قد عدّ نفسه مؤلفا ومخرجا في آن، بينما الممثلون من زوجته وأبنائه والبنات، فيما يكون أحفاده وأمهاتهم جمهورا، صار يحاول الاتصال مرات عدة على أبنائه وبناته فلم يجبه احد، وقتها كانت زوجته قد أغلقت باب غرفة بناتها من زوجها الضابط والذي تزوج بها بعد سجنه ولم تكن هي تعلم بمصيره أين، حينها أخذها ضابط الشرطة بقهر سلطته زوجة له، هو ذاته الضابط الكبير الذي ألقى القبض عليه في احد شوارع العاصمة،
التفتَ الى صوتها وهي تصبّحه بالخير في باحة الهول وتعتذر عن غيابها، نظر إليها بعطف وامسك يديها بشوق سنينه لها، اعتذر بنقاء منها مثل كل صباح يراها فيه، أعتذر بدموع حارة لأنه فقدها لسنوات خلت حين غُيب عنها وعن أولاده من البنين والبنات، وسُجن..، وكلاهما بلا ذنب .